منذ ربع قرن وأنا أنتقد الربط المتعسف بين العلم والدين، الذى أطلق عليه اسم «الإعجاز العلمى»، تلقيت الكثير من الهجوم الذى وصل إلى حد السباب والتهديد ورفع القضايا وتقديم البلاغات، كان سبب هذا التشنج الهستيرى عندما طرحت أفكارى الرافضة لمثل هذا الربط هو ظن هؤلاء المهاجمين أننى بانتقادى لمدرسة الإعجاز العلمى أهاجم الدين، بينما انتقادى فى الحقيقة هو لصالح الدين ولصالح العلم، لإنقاذ الدين من نسبية العلم وتغير نظرياته واعتماده على منهج الشك، ولإنقاذ العلم من ربطه بممارسات وأفكار علمية قديمة كانت بنت زمانها ويعتبرها رجال الدين من صلب العقيدة وأساسيات التدين، ولأن منهج كل منهما مختلف فالربط بينهما خطر وخطأ، أخيراً انتبه بعض علماء المسلمين المهمومين والمهتمين بتلك القضية والذين لاحظوا خسارة المسلمين فى ميدان العلم نتيجة تعلقهم بتلك الأفكار التى روجها د. زغلول النجار ومن قبله د. مصطفى محمود، عقد هؤلاء العلماء مؤتمراً كبيراً فى إسطنبول ويستكمل اليوم فى عمان، وضعوا فيه الخطوط العريضة لحل تلك الإشكالية المزمنة التى دمرت العقل الإسلامى وجعلته نهباً للفكر بالتمنى، حاولوا انتشال هذا العقل من التفكير الخرافى الغارق فى أحلام اليقظة، الرافض لمشاركة العالم حداثته ونهضته العلمية مكتفياً بالصراخ «علمكم الغربى موجود فى كتابى يا علماء يا كفرة، وما أنتم إلا مسخرون لخدمتنا نحن المسلمين، موتوا بغيظكم»!!، من الممكن الاطلاع على إعلان إسطنبول الذى يعتبر أول خطوة محترمة لمواجهة تجار وسماسرة الإعجاز العلمى من هذا الرابط وللعلم رئيس هذا المؤتمر هو أكمل الدين إحسان أوغلو وهو أستاذ كيمياء شهير وشخصية لها ثقل عالمى، وللصدفة مولود فى مصر وتخرج فى جامعة عين شمس، سأقتبس بعض توصيات هذا الإعلان المهم الذى يجب ترجمته ونشره فى كل وسائل الإعلام لحسم تلك القضية الشائكة، يقول الإعلان «لا ينبغى أن نفسر القرآن ككتاب علم أو حقائق علمية، إنه كتاب هداية هدفه الأساسى إدراك النجاح فى الحياة والنجاة فى الآخرة، إن السعى لإيجاد إعجاز علمى فى القرآن ليس من شأنه أن يجلب نتائج عكسية فحسب لكنه مضر أيضاً، إن التعامل مع العلم والإسلام على أنهما شىء واحد وبدون التفرقة بين أصولهما ومبادئهما أو تفاصيلهما سوف يؤدى إلى سوء فهم العلم والدين معاً، وسيحول هذا دون إنشاء حوار بنّاء بينهما»، بناءً على ذلك يجب حينما نتعامل مع هذا الطرح النقدى أن نتوافق على بعض الأصول وترك التطرق للتفاصيل لوقت لاحق.. ومن أهم ما طرحته ورقة الإعلان هذه العبارة التى تقول «يمكن التوفيق بين الحقائق العلمية للتطور البيولوجى ومن بينها تطور الإنسان والتى لا يمكن نفيها من الناحية العلمية»، ويعتبر هذا إنجازاً أن يعترف علماء مسلمون لهم وزنهم واعتبارهم بأن نظرية التطور قد ارتفعت إلى منزلة الحقيقة العلمية التى لا يمكن نفيها والتى أجمعت عليها كل جمعيات علم البيولوجى الكبار فى العالم، ثم يطالب الإعلان مدرسى العلوم المسلمين بأن يدربوا طلابهم على تطوير منهجية العقلانية فى بحث العالم الطبيعى من حولهم وأن يفكروا بطريقة نقدية مستقلة. إعلان إسطنبول حول الإسلام والعلم خطوة محترمة وشجاعة لإنقاذ العقل المسلم من براثن أصحاب بوتيكات التغييب والتخدير وتجارة الأمانى الزائفة والأكاذيب المريحة. * نقلا عن "الوطن"