آخر تحديث :السبت-21 ديسمبر 2024-08:12م

مشاهد من قضية مركزية!

الأربعاء - 29 مايو 2024 - الساعة 03:11 م

عبدالمنعم سعيد
بقلم: عبدالمنعم سعيد
- ارشيف الكاتب


يقال كثيرًا إن الواقع أحيانًا يكون أقوى من الخيال؛ وعندما تكون الحقيقة مركبة ومعقدة مثل القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية، فإن ما فيها من أحداث ووقائع تقترب أحيانًا من مسارات درامية وتراجيدية. ولا أدرى ما إذا كان العاملون فى حقول الأدب والفن سوف يدركون يومًا تلك الحالة المفزعة التى تنتقل كل لحظة إلى مشاهد جديدة تأتى كما لو كانت الصورة الكاملة ليست مرتعة بالأحداث الساخنة التى تظهر فجأة وتحصل على اهتمام النظارة فى المقاعد الأولى من التاريخ- الصحافة والإعلام- ولكنها بعد فترة ليست بعيدة إما أن تحل محلها أحداث ووقائع جديدة، أو أنها فقط تتلاشى فى كتب التاريخ. قبل أسبوع، كنت فى العاصمة السعودية الرياض بدعوة كريمة من مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية للمشاركة مع منظمتين عالميتين. التقى الجمع من أركان الدنيا، وفى عشاء الاستقبال كانت قضية الشرق الأوسط، حرب غزة الخامسة، على مائدة الاهتمام، مصحوبة بقدر غير قليل من الحيرة. فى فجر اليوم التالى، راجعت الأنباء فوجدت خبرًا باهتًا يقول إن طائرة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى الهليكوبتر اختفت فى الضباب والمطر والعاصفة والظلمة فى طريق عودتها من مهمة تدشين سد. عندما التقى الجمع فى الصباح لتناول الإفطار والشروع فى الجلسة الأولى كان السؤال الهامس: ما الذى جرى لرئيس إيران؟. طوال اليوم ظل الجميع ينظرون فى شاشات تليفوناتهم الجوالة عما حدث للرجل، الذى تشهد له حياته بالكاريزما والشدة، أضيفت للمرشد العام خامنئى لكى يكونا قدرًا غير قليل من البأس للدولة الإيرانية. لم تمضِ الساعات التالية بسرعة، وجرى فيها الكثير من التكهنات حتى علم الجميع بحادث الوفاة، وبدأ السؤال عن المتسبب فيه. «مَن قتل الرئيس؟». بدأ فيلم تكرر من قبل لرؤساء عدة من أول الرئيس إبراهام لينكولن حتى جون كينيدى والرئيس السادات وغيرهم. مصادر إيرانية ذكرت أن سبب سقوط الطائرة هو أن الولايات المتحدة امتنعت عن إرسال قطع غيار الطائرة إلى إيران، ورَدّت مصادر أخرى أمريكية بأنه من الصعب على أمريكا، وهى التى تهتف لها الجماهير والسلطة فى إيران: «الموت لأمريكا»، بعد صلاة كل يوم جمعة، أن تنتظم فى إرسال قطع الغيار إلى الجمهورية التى تعاديها.

الأمر المثير هنا أن «اغتيال» رئيس مهم أضاف صورة مثيرة تحدث فجأة، بينما تتخيل أن مسار الأزمة الأساسية فى طريقه إلى أن يكون معتادًا؛ المشهد هنا يشكل دفعة إضافية لمسار الأحداث، خاصة إذا ما وُلدت تساؤلات لا توجد إجابة عنها، وعما إذا كانت المخابرات الإسرائيلية هى التى قامت بالعملية، أو أنها المخابرات الأمريكية، أو حسبما قال أحدهم إن كلتا المخابراتين لا تعملان دون مساعدة الأخرى. ولكن أحدًا لا يمكنه استبعاد غياب قطع الغيار من المعادلة، ويستبعد معضلة عدم كفاءة فى النظام الإيرانى الذى حصل على شهادة الإحكام منذ نشوب حرب غزة، حيث جعل ميليشياته تدافع عنه. جميع دول المنطقة تقريبًا قامت بتقديم العزاء، أما إسرائيل والولايات المتحدة فقد أكدتا فى براءة تامة أنه لا صلة لهما بالموضوع.

فى أى عرض للقضية «المركزية» سوف يوجد سبب لاستعادة المشهد الأول الذى يصلح ليكون الفاتحة لعمل درامى مذهل يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ عندما قامت حماس بالهجوم على «غلاف غزة»، حيث جرى الكثير من التسجيل التلفزيونى لمشاهد من الهجوم بما فيه من عنف إزاء جماعات من المدنيين كان قسط منهم يحتفل فى حفل موسيقى. وبينما تواجه هنا القصة الإسرائيلية بأن ما حدث كان استمرارًا للمحرقة التى لا تنفك تعكر الوجود الإسرائيلى، حتى ولو حققت إسرائيل المكانة الرابعة فى سلم الدول السعيدة، فإن ذلك يخلق واقعًا مقابلًا من العنف. الفنون تعرف جيدًا «الفلاش باك»، أى العودة إلى الخلف، فبينما يهاجم المهاجمون، فإن ذاكرتهم تعود إلى الأيام الأولى للنكبة الفلسطينية الأولى، وما تلاها من نكبات أخرى وعمليات حصار وتجويع وإهانة وتمييز عنصرى عانى منها الفلسطينيون على مدى ثلاثة أرباع قرن. الواقع والماضى لا ينفكان بعد ذلك عن تقديم ما جرى فى الشهور التالية من تكرار مذهل للنكبة الفلسطينية عبر مراحل التهجير، والتهجير المعاكس، المختلفة، ومعها تحدث عمليات للإبادة الجماعية والقتل المنظم للأطفال، ومنهم مَن ينتفض بحثًا عن الأكسجين فى حضّانات المستشفيات المختلفة. الأرقام سوف تتوالى فى مشاهد متتابعة لسيدات عجائز أثناء عمليات التهجير، بينما تدفع عجل كراسيهن أبناء مخلصون لا تعرف كيف يغالبون الدمع إلا إذا حدث «كلوز آب» على العيون والخدود.

والحقيقة أن الرواية ليست، ولم تكن، فلسطينية إسرائيلية خالصة، وإنما توسعت لكى تشمل معسكر «المقاومة والممانعة»، وهى تعبير أكثر قوة من تعبيرات سابقة، مثل معسكر «الرفض» أو «الصمود والتصدى»، والتى الآن أفضل ممثلين لها السيد حسن نصرالله، إمام الشيعة اللبنانيين، قائد حزب الله، الثلث المعطل فى الحكم اللبنانى. الرجل فيه قدر غير قليل من الكاريزما، ورغم لبنانيته، فإن ثلث خطبه تركز على الولاء والإشادة بآيات الله فى طهران؛ وفى الثلث الأخير فإنه يعطى للبنان بعض الذكر، أما الثلث فى الوسط فإنه يعطيه لما قام به من بطولات أمام إسرائيل. المشهد يصبح سينمائيًّا مؤثرًا عندما ينتقل إلى الجماعة الحوثية فى اليوم من حيث الشكل والمضمون. شكلًا، فإن هناك الكثير من التشابه بين المتحدث الرسمى باسم جيش الحوثيين عالى الصوت ثابت الجنان فيه الكثير من الوعد والوعيد والتأكيد المستمر على أن النصر مضمون ومؤكد. «الفلاش باك» يمكنه استعادة شخصية محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام فى عهد الرئيس صدام حسين، إبان حرب تحرير الكويت. المشاهد تختلط بشكل كبير مع تحركات سرية يُشتم منها أن كافة أجهزة المخابرات فى العالم قد شمرت عن سواعدها فى حرب الشرق الأوسط.

التراجيديا لا تكتمل ليس فقط بما أسلفنا من عنف وصدام ودماء نازفة، وإنما يُكملها أنه فقط فى الشرق الأوسط تشتد تحركات الوسطاء والدبلوماسيين وتدخلات الأمم المتحدة؛ وفى «النزاع الأخير» ظهر دور كبير لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، حيث اكتملت على القمة بدعوى أن هناك ليس حربًا، وإنما عمليات حربية إرهابية. ولم يستبعد أبدًا على الأقل من ناحية إسرائيل استخدام الأسلحة النووية التكتيكية على الأقل. ومادام استخدام أسلحة الدمار الشامل قد حل التهديد به، فإنه يصبح مطاعًا الورود المُلِحّ لقضايا الإبادة الجماعية، التى يظن الإسرائيليون آن لديهم احتكارًا حصريًّا لها. ما يُثار أمامهم من قضايا الاحتلال و«النكبة» يبدو دائمًا نوعًا من الادعاء وتغطية لمعاداة السامية. الصور كثيرة ومفزعة، والذكريات حادة، مثل شفرات الموس، قاطعة ودامية، وجاهزة للتقيح والانتظار لحرب قادمة أو لفصل جديد فى حرب جارية.

نقلا عن المصري اليوم