"أود أن أشجعكم على رؤية العالم دائمًا من خلال عيون الآخر وكذلك إدراك وجهات النظر المختلفة (..) والعمل على تحقيق التوازن بين المصالح".
هذه وصية المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها، أنجيلا ميركل، لمواطنيها في خطاب وداع ألقته، الخميس الماضي، في لحظات وداع عاطفية، لكنها كانت أكثر من مجرد وصية؛ بل يمكن اعتبارها ملخصا لإرث سيدة استثنائية.
فميركل التي تودع السلطة بعد ١٦ عاما على رأس حكومة ألمانيا، لم تكن طوال هذه المدة شاهدة على التاريخ فحسب، بقدر ما كتبته بنفسها، ومثلت العبارة السابقة ملخصا لما فعلته وأيدته في سنوات الحكم.
والخميس الماضي، حظيت ميركل بمراسم وداع رسمية بعد ١٦ عاما و5860 يوما في منصب مستشار ألمانيا، في فعالية خاصة بالجيش، واستمعت لعزف لأغانيها المفضلة، لكنها لم تقاوم دموعا ملأت عينيها.
وفي خطاب وداع خلال الفعالية، قالت ميركل "أشعر بالامتنان والتواضع. التواضع أمام المنصب، والامتنان على الثقة.. كنت أدرك دائمًا أن الثقة رصيد مهم في السياسة، وأشكركم من أعماق قلبي عليها".
وعبرت عن اقتناعها بأنه "يمكننا الاستمرار في تشكيل المستقبل بشكل جيد إذا لم نذهب للعمل بالاستياء والتشاؤم (...) ، بل بالسعادة في قلوبنا"، متابعة "هذه هي السعادة في قلبي التي أتمناها لكم جميعًا، لبلدنا في المستقبل أيضًا".
ضربة حظ لألمانيا
وعلى مدار السنوات الماضية، حظيت ميركل بإعجاب كبير سواء على المستويين السياسي أو الشعبي، ولا تزال تحافظ على المرتبة الأولى في قائمة السياسيين الأكثر شعبية بألمانيا رغم تقاعدها، وفق استطلاعات الرأي.
وقبل أيام، وصف فولفجانج شويبله، الرئيس السابق للبرلمان الألماني (بوندستاج)، وهورست زيهوفر وزير الداخلية الاتحادي المنتهية ولايته، ميركل بأنها سياسية بارزة وبمثابة ضربة حظ بالنسبة لألمانيا.
ووصفها زيهوفر بأنها " سياسية استثنائية"، فيما قال زيجمار جابرييل الذي تولى سابقا منصب نائب ميركل ووزير خارجية في حكومتها وترأس أيضا الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إنها سطرت بذلك فصلا إيجابيا من تاريخ ألمانيا.
وكدلالة على قوتها، تعرف ميركل بين الألمان بـ"ملكة الليل"، لأنها اعتادت ممارسة عملها وعقد الاجتماعات حتى وقت متأخر دون أن تتأثر حالتها الصحية أو الذهنية.
ويروج الألمان لعبارات تشبه الأساطير عن المستشارة القوية، مثل أنها بإمكانها العمل طويلا وتخزين النوم مثلما يخزن الجمل المياه.
ومثلما صنعت ميركل الاستثناء على مستوى العمل والتفاني والإنجاز، قدمت نفسها دائما في صورة القائد الذي يسمو على الخلافات الحزبية الضيقة ويعمل فقط من أجل مصلحة ألمانيا.
قائدة استثنائية
وأظهرت ميركل ذلك بوضوح في قمة العشرين المنعقدة بالعاصمة الإيطالية روما في أكتوبر/ تشرين أول الماضي، حين اصطحبت خليفتها أولاف شولتز إلى الاجتماعات مع رؤساء الدول، لمنحه رؤية عن مهام المنصب.
ووفق صحيفة "بيلد" الألمانية، فإن ميركل حاولت أن تبعث برسالة إلى قادة الدول بأن "شولتز "هو الرجل القوي القادم لألمانيا، وسعت إلى أن يعتاد السياسي الاشتراكي الديمقراطي على الأجواء، ويعتاد القادة عليه قبل توليه المنصب.
ولاقى هذا الأمر ترحيبا كبيرا من وسائل الإعلام في ألمانيا، فعلى الرغم من أن "شولتز" لا ينتمي إلى نفس التوجه السياسي الذي تنحدر منه ميركل (محافظة)، إلا أن المستشارة فكرت بمنطق القائد الحريص على أن تستمر بلاده في مسارها الصحيح بعد خروجها من السلطة، وأن يكون خليفتها جاهزا للعمل باحترافية دون فترات تدريبية أو تجريبية.
لكن هذا التصرف لم يكن غريبا على ميركل؛ السيدة التي تملك صفات نادرا ما تتوافر في شخص واحد أو سياسي في عالم تنبض فيه معدلات الشعبية والحب على وقع التغريدات وتعبيرات الوجه الإلكترونية.
فالمرأة الحديدية، كما تصفها وسائل الإعلام، خاضت حياة سياسية على أساس "المبدأ" و"الاحترام"، فلم ترضخ يوما لضغوط، ولم تفعل إلا ما تراه مناسبا، حتى لو واجهتها عاصفة انتقادات أو موجة ضغوط.
كما أنها غيرت العالم كثيرا في الـ١٦ عاما الماضية، سواء عبر تقديم نموذج لسياسي استثنائي ونظيف اليد وهادئ ومتمسك بالقضايا الإنسانية، أو عبر قرارات قوية ذات طابع إنساني منحت قبلة الحياة لكثير من الناس.
وأحد هذه القرارات هو إتباع ميركل سياسة الباب المفتوح في أزمة المهاجرين عام ٢٠١٥، وفتح حدود ألمانيا لاستقبال مليون لاجئ من الشرق الأوسط، في تصرف استثنائي عرضها لكثير من اللوم في الساحة السياسية الداخلية وكلفها تراجعا انتخابيا غير معهود في الاقتراع التشريعي عام ٢٠١٧.
لكن هذا القرار فتح أبواب قلوب ملايين الناس على مصراعيها للمستشارة المنتهية ولايتها، وحولها إلى رمز وشخصية عالمية استثنائية ينظر لها بكثير من الاحترام والتقدير، وفق تقارير صحفية ألمانية.
عنقاء من بين الرماد
ورغم الطابع الهادئ للمستشارة، إلا أنها تمتعت بقوة وجلد كبيرين خلال رحلة طويلة في العمل العام استمرت ٣٠ عاما، ظهرت بوضوح في كثير من اللحظات الصعبة خلال السنوات الماضية.
فقبل نحو عامين، كان الجميع يتوقع نهاية مفاجئة لميركل، بعد أن ظهرت ضعيفة وجلست في استقبالات رسمية على كرسي ثلاث مرات إثر إصابتها برعشة مفاجئة أمام عدسات الكاميرات.
لكن المستشارة التي تمسكت بأنها "بصحة جيدة" استطاعت أن تخرج من هذه الأزمة قوية، ولم يظهر عليها هذا الضعف مرة أخرى.
ولم تكن هذه أول مرة تفاجئ بها ميركل متابعيها وخصومها بقوة وجلد، فهي تمتلك رحلة صعود استثنائية في عالم السياسة، بداية من توليها منصب وزير البيئة عام 1997، ثم انتخابها بعد عام أمينة عامة للحزب الديمقراطي المسيحي، قبل أن تتولى رئاسة الحزب في غضون أربع سنوات فقط من هذا التاريخ.
وقبل 2005، لم يكن أحد يتوقع أن تنجح ميركل، أو كما كانت تلقب بـ"طفلة هيلموت كول المدللة" بسبب قربها من مثلها الأعلى هيلموت كول، في الوصول إلى الحكم، وسط تحليلات عن افتقارها للكاريزما.
لكن المرأة الحديدية هزمت توقعات الجميع، ووصلت لحكم ألمانيا، بل تربعت لسنوات طويلة على قائمة أقوى النساء في العام، التي تصدرها مجلة فوربس الأمريكية.
ومنذ ذلك التاريخ، أظهرت ميركل التي تحمل دكتوراة في الفيزياء وعاشت معظم حياتها في ألمانيا الشرقية السابقة، قدرا كبيرا من القوة والإلمام بالسياسة، جعلاها تهيمن على المشهد الألماني لمدة 16 عاما، وتتساوى مع مثلها الأعلى المستشار السابق هيلموت كول في عدد سنوات الحكم.
وفي 2019، على سبيل المثال، قادت ميركل سفينة الائتلاف الحاكم مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي وسط رياح سياسية عاتية إثر خلافات بين طرفي الحكومة حول عدة قضايا أبرزها المناخ والرقمنة وميزانية الدفاع، ثم تعرض الاشتراكي الديمقراطي لهزيمة كبيرة بالانتخابات الأوروبية في مايو/ أيار 2019.
ورغم أنها أعلنت طواعية، في ديسمبر/ كانون الأول 2018، نهاية رحلتها مع السياسة بختام الفترة التشريعية الحالية في الخريف الحالي لإفساح المجال لقيادات جديدة، لم تدخر ميركل جهدا في مواجهة فيروس كورونا المستجد، وقادت بلادها بنجاح في الأزمة حتى اليوم، سواء اقتصاديا أو صحيا.